التشوهات المعرفية

ليس جديداً أن نعرف أنه عندما يحدث شيء ما، ليس الحدث نفسه هو الذي يتسبب في انفجار مشاعرنا، بل الطريقة التي ندركه بها والطريقة التي نفسر بها الأحداث المذكورة. بعد كل شعور سلبي مثل الحزن والغضب والغيظ والخوف والقلق والألم وغيرها، هناك فكرة يخفيها العقل ولايسمح لنا برؤية الواقع كما هو، تُعرف هذه التغييرات في الواقع باسم التشوهات المعرفية. يمكن لأي شخص أن يواجه مثل هذا التشويه للواقع في مرحلة ما، لذلك، من المهم معرفتها، ومعرفة كيفية التعرف عليها وإدارتها، من أجل الصحة العاطفية وتطوير التفكير المنطقي. و لقد شهدنا جميعاً التشوهات المعرفية من وقت لآخر، على اعتبار أنها جزء من التجربة الإنسانية “لدي أسوأ حظ في العالم، أنا فاشل في الرياضيات، أنا لست جيدًا في الدراسة، يجب أن أستقيل”. هذه العبارات ليست سوى أمثلة قليلة عن التشوهات المعرفية و أنماط التفكير التي تجعلنا نرى الواقع بطريقة غير دقيقة، وعادةً ما تكون سلبية، بالإضافة إلى ذلك، إذا تم تعزيزها بشكل متكرر، فإنها يمكن أن تزيد من القلق، أو تفاقم الاكتئاب، أو تسبب صعوبات في العلاقة، أو تؤدي إلى مضاعفات أخرى. فما هي التشوهات المعرفية؟
التشوهات المعرفية: هي أنماط تفكير يمكن أن تؤدي إلى تفسيرات غير دقيقة للواقع ومشاعر سلبية غير ضرورية، وهي أفكار تلقائية تنشأ في العقل دون أن ندرك ذلك، وإذا لم يتم معالجتها يمكن أن تؤثر سلباً على حياتنا اليومية وصحتنا العقلية.
أهميتها: من المهم معرفة التشوهات المعرفية وتعلم كيفية التعرف عليها لأنها يمكن أن تؤثر على إدراكنا للواقع وقراراتنا وعواطفنا. إذا تركت التشوهات المعرفية دون علاج، فإنها يمكن أن تساهم في مشاكل الصحة العقلية، مثل القلق والاكتئاب.
أنواع التشوهات المعرفية:
١- التصفية:
يقصد بها تسليط الضوء على التفاصيل السلبية ووضعها تحت المجهر بينما نستبعد جميع الجوانب الإيجابية لموقف ما. فعلى سبيل المثال: قد يقوم الشخص بانتقاء تفصيلة سلبية أو غير سارة ويسترسل في التفكير فيها بحيث تصبح رؤيته للواقع مظلمة أو مشوهة.
٢- التفكير المستقطب (إما أبيض وإما أسود):
صاحب التفكير المستقطب يرى الأمور إما بيضاء وإما سوداء، إما جيدة وإما سيئة، إما الحصول على كل شيء أو لا شيء، وإما أن نكون مثاليين وإما نعلن فشلنا؛ فلا توجد أرضية مشتركة، ونقوم بتصنيف الناس أو المواقف في خانات (إما/ أو) دون أن نفترض وجود منطقة رمادية تتسع لتعقيدات معظم المواقف والأشخاص، وعندما ينخفض أداؤنا في شيء ما عن المثالي فنلقب أنفسنا بالفاشلين تماماً.
٣- الإفراط في التعميم:
في هذا التشوه المعرفي قد نصل إلى استنتاج عام بناءً على حادثة واحدة أو دليل واحد، لو وقع مكروه لمرة واحدة فقط نتوقع أن يحدث مراراً وتكراراً؛ فمثلًا لو قدُمت لك خدمة سيئة في أحد المطاعم قد تفكر أن جميع مطاعم المدينة سيئة، لو تعرضت للخيانة من أحد الأصدقاء قد تفكر أن الخيانة صفة أصيلة في كل الناس فتقرر الانعزال عنهم، وقد يرى شخصٌ ما أن خسارته في أمر ما دليلٌ على أن خسارته تلك جزء من نمط انهزامي لا ينتهي.
٤- القفز إلى الاستنتاجات:
ويُعنى بها الوصول إلى استنتاج أو قرار معين (دائمًا سلبي) دون أخذ الوقت اللازم لإيجاد الأدلة أو الحجج الداعمة له وتندرج تحتها ثلاثة أنواع فرعية:
الأول- قراءة الأفكار: استنباط أفكار الشخص المحتملة أو المتوقعة من خلال سلوكياته والتواصل غير الكلامي في سياق الموقف.
الثاني- التسمية: ويقصد بها استخدام التعميم المفرط لمنح مجموعة من الناس أو الأحداث صفة معينة بناءً على تصرفات بعض أعضاء هذه المجموعة، وفي الغالب ما تحمل هذه الصفات أو الأسماء مدلولاً سلبياً.
الثالث- تفكير العرافة: تمسك المرء بتوقعاته غير المرنة لما يمكن أن تؤول إليه الأمور قبل حدوثها؛ فقد يتنبأ الشخص أن عواقب الأمور ستكون سلبية دون امتلاك أي دليل على ذلك. فمثلاً: قد يصرح أنه “لا فائدة من اتباع حمية غذائية صحية؛ لأنني لن أستطيع الالتزام بها”.
٥- التهويل والتهوين:
إعطاء قيمة أكبر نسبياً لحالة فشل متحققة أو حالة ضعف أو تهديد، أو إعطاء قيمة أقل لحالة نجاح متحققة أو حالة قوة أو فرصة؛ بحيث تختلف تلك القيمة عن تقييم الآخرين لهذا الحدث أو الشيء. فعادة ما يقوم المكتئبون بالمبالغة في الصفات الإيجابية للآخرين ويبخسون قدر الصفات السلبية. هناك نوع فرعي واحد للتهويل:
– تقدير الكوارث: إعطاء قدر أكبر لأسوأ النتائج المحتملة، رغم أنها غير محتملة، أو الشعور بأن موقفاً ما لا يحتمل أو لا يطاق في حين أنه موقف غير مريح فقط، ومن الأمثلة على ذلك خوف أحد المراهقين الشديد من تعلم قيادة السيارات اعتقاداً منه أنه سيصاب في حادث.
٦- الشخصنة:
الشخصنة هي تشوه يميل صاحبه إلى أخذ الأمور على محمل شخصي فيترجم أقوال أو أفعال الآخرين على أنها نوع من رد الفعل المباشر والشخصي على أفعاله أو سلوكياته، ويتمثل أيضاً في مقارنتنا لأنفسنا بالآخرين في محاولة تحديد من الأذكى ومن الأكثر جاذبية وهكذا.
وقد يدفع هذا التفكير صاحبه لأن يلوم نفسه على وقوع أحداث سلبية خارجية لم تكن داخل نطاق سيطرته من الأساس.
٧- أن تكون على صواب دائماً:
يدفع هذا النمط من التفكير صاحبه للتوحد مع آرائه بدرجة تجعله يتعامل معها على أنها حقائق لا جدال فيها؛ فيفشل في مراعاة شعور الآخرين أثناء النقاش أو الجدال، مما يحول دون إقامة علاقات شخصية صحية كنتيجة لتبدية وجهات النظر كأولوية أولى فوق مشاعر الآخرين.
٨- المفترضات:
لدينا كمجتمع قائمة طويلة من القواعد الصارمة عن كيفية التصرف في المواقف المختلفة في ضوء الالتزام بمعايير أخلاقية مطلقة وليس في ضوء الاستجابة للظروف الخاصة التي يتفرد بها كل شخص حسب تجاربه، ونشعر بالغضب عندما يخالف الناس هذه القواعد، بل ونشعر نحن بالذنب عندما ننتهك هذه القواعد، وقد يتصور الشخص أنه يحاول تحفيز نفسه باستخدام قواعد “ما يفترض فعله” و”ما لا يفترض فعله” فينتهي به الحال إلى الشعور بالذنب والإحباط لأنه لم ينجح في مجاراة هذه المعايير المنشودة.
٩- مغالطة السيطرة:
عندما يفترض الشخص أن الأمور تسير وفق سيطرة داخلية منه فهو يحمل نفسه المسؤولية وراء مشاعر الألم أو السعادة التي يختبرها الآخرون، ومن ناحية أخرى عندما يفترض الشخص أن الأمور تسير وفق سيطرة خارجية عليه فسوف يرى نفسه ضحية وقد يلقي اللوم على الآخرين محملاً إياهم مسؤولية أخطائه؛ فقد يلوم مديره في العمل على أدائه الضعيف في مهمة أوكلها له بحجة أنه طلب منه أن يعمل وقتاً إضافياً لإتمامها.
١٠- مغالطة العدالة:
يقوم صاحب هذه المغالطة بتقييم المواقف والأحداث من حوله من منظور العدل والمساواة فيشعر بالاستياء عندما يُصدم بأن الأمور في الواقع لا تسير وفق هذا المنطق وأن الحياة ليست عادلة دائماً، وأن عليه تقبل حقيقة أن الأمور يمكن أن تسير عكس ما خطط لها وأن عواقبها لن تكون دائماً في صالحه لأن الحياة ليست (منصفة) دائماً.
١١- التفكير الانفعالي:
ويقصد به افتراض أن المشاعر السلبية تُفصح عن الطبيعة الحقيقية للأشياء. فمثلاً: عندما نشعر بالملل والغباء -حتى ولو لبعض الوقت- فنعتقد أن ذلك الشعور ما هو إلا انعكاس لحقيقة لا جدال فيها وهي أننا (أغبياء ومملون) وتستمر معايشتنا للواقع استناداً على فرضية أنه “ما دمت أشعر بشيء فلا بد أن يكون حقيقياً”؛ فعلى سبيل المثال: قد يظن أحد الأشخاص أن شعوره بالخوف من الطيران ليس له معنى آخر إلا أن الطيران وسيلة خطرة جداً للسفر، وهكذا.
١٢- مغالطة التغيير:
يفترض صاحب هذا التشوه أنه يتوجب على الآخرين التغيير من سلوكهم حتى يتلاءموا مع توقعاته أو تصوراته عما يجب أن يكونوا، وتعتبر هذه الطريقة في التفكير نوعاً من الأنانية؛ لأنها تصر على سبيل المثال أنه يتوجب على الآخرين تغيير جدول أعمالهم الزمني ليتناسب مع جدولنا أو أن يمنع شخصٌ زوجته من ارتداء ردائها المفضل فقط لأنه لا يعجبه.
١٣- الوصم:
يعد هذا التشوه شكلاً متطرفاً من أشكال التعميم المفرط؛ حيث يقوم صاحبه بتصنيف الناس والمواقف استناداً على تجربة واحدة، فبدلاً من الاعتقاد أن شخصاً ما ارتكب خطأ يمكن تبريره في سياق الظروف الفردية الخاصة به، يتم وصم هذا الشخص بصفة سلبية دائمة تلازمه ما دام حياً، ويمكن للأشخاص تصنيف أنفسهم أيضاً بنفس الطريقة؛ فقد يصف شخص ما نفسه بأنه (فاشل) في المطلق فقط لأنه لم ينجح في إنجاز مهمة معينة وهكذا.
١٤- مغالطة فكرة المكافأة:
تحدث عندما نتوقع أن تضحياتنا وإنكارنا لأنفسنا سوف تؤتي ثمارها، وكأن هناك من يقوم بعدها واحتسابها لنا لمكافأتنا عليها ونشعر بالإحباط إن لم نحصل على تلك المكافأة.
١٥- إلقاء اللوم:
يمكن القول بأن هذا التشوه يقع على النقيض من “الشخصنة”؛ فبدلاً من تحميل الذات مسؤولية كل شيء، في هذه الحالة يتم إلقاء اللوم على الآخرين أو الأحداث الخارجية وتحميلهم مسؤولية ما نشعر به من ألم، رغم أننا فقط من يملك السيطرة على مشاعرنا وردود أفعالنا العاطفية.
التعرف على التشوهات المعرفية والتغلب عليها:
فيما يلي بعض النصائح التي يمكن أن تساعدك في التغلب على التشوهات المعرفية:
١ـ تحديد التشوهات المعرفية: الخطوة الأولى للتغلب على التشوهات المعرفية هي التعرف عليها. انتبه لأفكارك وابحث عن الأنماط أو المواضيع المتكررة التي قد تسبب أفكاراً سلبية أو مشوهة.
٢ـ شكك في أفكارك: بمجرد تحديد التشوهات المعرفية، قم بالتشكيك في أفكارك السلبية أو المشوهة. اسأل نفسك إذا كانت هناك طرق أخرى لتفسير الموقف أو إذا كنت تبالغ في أهمية شيء ما.
٣ـ ابحث عن الأدلة: إذا كانت لديك فكرة سلبية، فابحث عن الأدلة التي تدعمها، إذا لم تتمكن من العثور على أي دليل، فحاول التفكير في طرق أكثر واقعية للنظر إلى الموقف.
٤ـ استخدام تقنية إعادة الهيكلة المعرفية: تتمثل هذه التقنية في تحديد التفكير السلبي والتشكيك فيه واستبداله بتفكير أكثر واقعية، على سبيل المثال، إذا كانت لديك فكرة “أنا فاشل”، فيمكنك استبدالها بـ “لقد ارتكبت أخطاء، لكن هذا لا يجعلني فاشلاً”.
٥ـ ممارسة اليقظة الذهنية: يمكن أن تساعدك اليقظة الذهنية على الانتباه إلى اللحظة الحالية وتقليل اجترار الأفكار السلبية. مارس اليقظة الذهنية من خلال التأمل أو التنفس الواعي.
٦ـ اطلب الدعم: التحدث مع صديق أو متخصص في الصحة النفسية يمكن أن يساعدك في اكتساب المنظور والتغلب على التشوهات المعرفية. اطلب المساعدة إذا كنت في حاجة إليها.
٧ـ ممارسة التأمل الذاتي: خذ وقتاً للتفكير في أفكارك وعواطفك. حدد ما يزعجك وفكر في طرق لمعالجة هذه المشكلات بشكل بناء.
باختصار، قد يستغرق التغلب على التشوهات المعرفية جهداً ووقتاً، ولكنه يمكن أن يساعدك على تحسين الصحة العقلية والحصول على نظرة أكثر إيجابية وواقعية للحياة.
الاستنتاجات:
١ـ التشوهات المعرفية شائعة في الحياة اليومية ويمكن أن تؤثر على الصحة العقلية للشخص.
٢ـ يمكن أن يساعد تحديد التشوهات المعرفية في تحسين الصحة العقلية وتقليل القلق والاكتئاب.
٣ـ يمكن أن تكون التشوهات المعرفية نتيجة لتجارب سابقة، مثل الصدمة أو أنماط التفكير المكتسبة.
٤ـ يمكن أن تؤثر التشوهات المعرفية على الطريقة التي يدرك بها الشخص المواقف الاجتماعية ويمكن أن تتداخل مع قدرته على إقامة علاقات صحية والحفاظ عليها.
من المهم أن نلاحظ أن التشوهات المعرفية ليست أمراضاً عقلية، ولكنها أنماط تفكير شائعة يمكن أن تؤثر على طريقتنا في إدراك المعلومات ومعالجتها، إن التعرف على هذه التشوهات المعرفية يمكن أن يساعدنا في التشكيك في أفكارنا وتطوير منظور أكثر موضوعية وواقعية للواقع.

عيسى العيسى الحداد

عامل اجتماعي خريج جامعة جيان بإسبانيا، حاصل على درجة الماجستير في التبعية والمساواة في الاستقلال الشخصي، حاليا طالب دكتوراة في الرعاية الاجتماعية و الصحية الشاملة.
زر الذهاب إلى الأعلى