الفكر العربي بين التحدي والتجديد
إنّ الفكر العربي هو المنظومة الفكرية التي تُشكل الثقافة العربية، وتُطور المجتمعات عبر الإصلاح والتجديد والتغيير، لذلك تفاعلَ الفكر العربي على مرّ العصور والأزمان بتفاعلات وأيدولوجيات كبيرة ومتنوعة، مما أوجد أفكار وتحولات مجتمعية ذات آفاق متغيرة ومتجددة، لهذا هناك الكثير من التحديات والمسؤوليات التي تقع على “الفكر العربي” التي تعكس عُمقَ التحديات العربية وقوة الطموح وشرعية الأمل وصدق الثقة نحو فكر عربي في المقام الأول وفكر سعودي جديد في المقام الثاني وهذا هو الأهم؛ مركزاً على الحاجات الملحة ومراجعة التيارات الفكرية والمفاهيم السائدة، وعلى هذا يعيش المجتمع السعودي مزيجاً من التحوّلات العميقة؛ حيث أحدثت التطورات التنموية الكبرى تحولاً فكرياً في الذهنية الجديدة للسعوديين والسعوديات، مع تسارع معدلات التغيّر الثقافي والاجتماعي؛ نتيجةَ التوسع الديناميكي السوسيولوجي في حراك المشاريع العملاقة والتعديلات الجوهرية في بعض الأنظمة والقوانين.
فأقول وبه أستعين:
إنّ تطور الفكر الاجتماعي عادةً لم يكن وليد الصدفة، بل هو نتيجة أسباب وعدة عوامل دينية وثقافية واقتصادية، إذ إنَّ الفكر الاجتماعي هو معرفة ما هو النموذج المثالي للمجتمع، وكيف يمكننا تحقيقه، ارتكازًا على أفكار سياسية ومعتقدات وآراء، لذا نستطيع تحديد بعض ملامح الفكر الاجتماعي لسمو ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- من خلال رؤية المملكة العربية السعودية ٢٠٣٠، والعديد من الإنجازات الاجتماعية التي عكست اهتمامًا فكريًا بقضايا غاية في الأهمية للمجتمع السعودي، التي أسهمت وبشكل ملحوظ في انفتاح وتقبل المجتمع لثقافات المجتمعات الأخرى، فضلاً عن انفتاح تلك المجتمعات وتقبلها لمجتمعنا، وهذا من شأنه أن يتيح فرصاً أكبر للفهم والوعي بتقبل الآخر رغم الاختلاف الثقافي والديني والاجتماعي، وباتت هذه التغيرات الحديثة تُغيّر من صورة المواطن السعودي عالميًا.
وفي السياق ذاته، أسهمت الترجمة بوصفها أداةً للتواصل بين الشعوب في هذه التغيّر، وذلك من خلال تفاعل الكُّتاب والكتابة بلغات أجنبية؛ وهؤلاء يكون تأثيرهم قوياً وواسعاً في حركة الفكر العربي، حتى لو لم يكتبوا باللغة العربية؛ إذ أسهموا في نقل المعلومات من لغة إلى لغة أخرى، لذلك يجب على الفكر العربي أن يسعى إلى تحقيق هذا التوازن بين الخصوصية والكونية، مستلهمًا من النص القرآني الذي يتحدث عن الإنسان ككل(١).
ورغم ما يُثار حول “أزمة الفكر العربي” إلا أن ذلك قد يكون مبالغًا فيه، فالفكر العربي لا يخلو من الإنتاجات القيمة والمبتكرة، ومع ذلك، يجب الاعتراف بوجود تحديات تواجه بعض المجالات الفكرية، ففي حين تشهد مجالات الأدب والفلسفة على سبيل المثال ازدهاراً واهتماماً، فإنّ مجالات أخرى مثل السوسيولوجيا تحتاج إلى مزيدٍ من الجهد والاهتمام، وعلى هذا شهدت أنماط الكتابة والتأثير في الثقافة العربية تحولات جذرية، حيث بات الفكر العربي أكثر تنوعًا وحيويةً، ولم يعد مقتصرًا على المجالات التقليدية، بل امتدَّ ليشمل جميع أشكال الإبداع، من الشعر والرواية إلى السينما والفنون البصرية، إذ إنَّ كلَّ مبدع في مجاله يساهم في تشكيل الفكر العربي المعاصر(١)، ففي “الرواية السعودية” على سبيل المثال، نجدها لعبت دورًا محوريًا وكبيراً في التفاعل مع التحولات الثقافية في البيئة الاجتماعية السعودية، وعُكس من خلالها الكثير من القضايا والتحولات في المجتمع والفكر(٢) إلى جانبِ السينما والأفلام القصيرة، وبالتالي باتت المملكة العربية السعودية تسعى جاهدةً بأن تزدهر وتستثمر كافة المجالات الثقافية والأدبية والمسرحية ومن ضمنها صناعة السينما(٣).
واليوم مع تطور التكنولوجيا نشهد أشكالًا جديدة للإبداع، مثل: الإبداع الرقمي، حيث إنّ التحول الرقمي يلعب دوراً كبيراً في تعزيز الحراك الثقافي والأدبي، ومن أمثلة ذلك بعض المنصات الإعلامية القادرة على إنتاج خطاب إعلامي رقمي مؤثر في مخاطبة المتلقي؛ وذلك بمراعاة الواقع الفكري والثقافي لشرائح الجمهور المستهدف مثل منصة ثمانية الإعلامية(٤)، وفيما يخص تقنية الذكاء الاصطناعي فقد دُمجت في جُلّ تفاصيل الحياة اليومية، وهذا الأمر جعل منها تقنية حاضرة حضورًا إلزاميًا، وجب الإفادة منه، إلا أن هناك قلةً في التطبيقات العربية المعتمدة على تقنية الذكاء الاصطناعي(٥) الذي قد يفتح آفاقًا جديدة للفكر العربي.
وقد يواجه المفكر العربي بعض التحديات في مسيرته الإبداعية، فهو يعمل ضمن سياق ثقافي قد لا يكون داعمًا لأفكاره، ويتطلب منه أن يكون على درايةٍ عميقةٍ بتاريخهِ الوطني الثقافي، وهنا تكمن أهمية تعزيز الهوية الوطنية. ورغم ذلك، يبقى على المفكر أن يكون قادرًا على تحليل الواقع المعقد الذي يعيش فيه، وأن يُقدّم رؤى جديدة تُساهم في تطوير مجتمعه، وبذلك لا تقتصر مهمة المفكر على الإنتاج الفكري فحسب، بل تمتد لتشمل المساهمة في تطوير المجتمع. فالثقافة هي المحرك الأساسي للتنمية، وهي التي تشكل هوية الشعوب. ولذلك فإنَّ على صناع القرار أن يولوا الثقافة اهتمامًا كبيرًا، وأن يدمجوها في الخطط والبرامج التنموية التي باتت تضع الإنسان محورها الأهم بوصفه أحد المحاور الهامة في التنمية(٦)، وهذا ما أكدتهُ رؤية المملكة ٢٠٣٠ في هذا الصدد، إذ تدعم الثقافة بالعمل على تخصيص الأراضي المناسبة لإقامة المشروعات الثقافية من مكتبات ومتاحف وفنون وغيرها، ودعم الموهوبين من الكتاب والمؤلفين والمخرجين، والعمل على دعم إيجاد خيارات ثقافية متنوعة تتناسب مع الأذواق والفئات كافة(٧) فعلى سبيل المثال، يعمل معرض الرياض الدولي للكتاب على توفير البيئة الحاضنة والداعمة للإبداع الثقافي وتقديم منصة دولية متكاملة للمثقفين، والأدباء، والمفكرين، والمبدعين.
وفي المقابل، فإنَّ أبرز التحديات التي قد تواجه الفكر العربي في التعامل مع الشباب هي قضية الثقة، فالشباب يمتلكون طاقات إبداعية هائلة، ولكن غياب الثقة في قدراتهم يحول دون استثمارها بالشكل الأمثل، لذا يجب أن نؤمن بقدرة الشباب على الإبداع والابتكار، وأن نمنحهم الفرصة للإسهام في بناء مستقبل أوطانهم(٨). فالثقة هي الوقود الذي يدفع الشباب إلى الأمام، وهي أساس التنمية المستدامة، وهذا ما أكدتهُ رؤية المملكة 2030 حيث أحدثت نقلةً نوعيةً وغير مسبوقة في إشراك النساء والشباب، فأصبحوا شركاء فاعلين وقادات التغيير، وحققوا نجاحات نوعية تباينت مجالاتها علمياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.
وعليه فهذه التحديات قد تُقدّم فرصاً هائلة لتطوير الفكر العربي، مما يساهم في نهضة المجتمع العربي من خلال التفكير النقدي، فهو أساس التكوين الفكري العربي بحيث يمكن تحليل الأفكار والمفاهيم المختلفة بعقلانية ومنطقية، كما تلعب المؤسسات والمبادرات الفكرية مثل “مؤسسة الرياض غير الربحية” التي أطلقها سمو سيدي ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله -، دوراً هاماً في تعزيز البحث والنقاش حول مختلف القضايا الاجتماعية، وتطوير أفكار جديدة تساهم في تقدم المجتمعات.
وبذلك فالعالم اليوم يشهد تحولات جذرية بفعل التطور التكنولوجي المتسارع، مما يتطلب من الفكر العربي أن يتجدد ويتكيّف مع هذه المتغيرات، بتجديد وسائل وتقنيات ومناهج وبرامج التربية والتعليم في بلداننا العربية (ووفق التقرير العربي للتنمية المستدامة ٢٠٢٤ ما تزال المنطقة العربية بعيدةً عن تحقيق الإمكانات الكاملة التي يختزنها التعليم للتحول والتغيير، إلا أن العديد من البلدان العربية زادت من استخدام التكنولوجيا في العملية التعليمية، لذا تعمل بلدان مجلس التعاون الخليجي على إصلاح المناهج وطرق التدريس لتحفيز الطلاب على اكتساب المهارات، وتحسين نتائج التعلم كما هو الحال في المملكة العربية السعودية)(٩)، ومن بين الأمور التي ربما تواجهنا في هذا الصدد، هي مسألة الانتباه، فالثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي قد تُعيق قدرات الشباب على الانتباه والتركيز؛ مما ينعكس على الإدراك والوعي والعلاقات الإنسانية والتوازن النفسي والسلوكي، وهي تحدي من التحديات التي قد نواجها في عصرنا الحالي(١٠).
المراجع:
(١) محمد، آفاية، عبدالله، السيد ولد أباه. (٢٠٢٤، سبتمبر٢٨). عبدالله البريدي (مدير الحوار)، الفكر العربي وتحديات الوضع الراهن ]ندوة حوارية[. معرض الرياض الدولي للكتاب، جامعة الملك سعود، الرياض، المملكة العربية السعودية.
(٢) العمري، عبدالله بن محمد. (٢٠٢٤). التحولات الثقافية والاجتماعية للرواية السعودية. مجلة الجمعية السعودية للدراسات الاجتماعية.
(٣) الشمراني، فاطمة أحمد، ومطيب، لمار إبراهيم أحمد. (2024). الأزياء السعودية التراثية في السينما ودورها للوصول للعالمية. (١٠٨)، ٢٦٣-٢٤١. Journal of Arts, Literature, Humanities and Social Sciences
(٤) بحيري، هنادي محمد. (2024). الخطاب الإعلامي لمنصة ثمانية في ضوء البلاغة الرقمية. مجلة الآداب للدراسات اللغوية والأدبية، مج6, ع1، 9 – 35.
(٥) شاهين، رانية أحمد رشيد. (2022). واقع اللغة العربية والذكاء الاصطناعي. مجلة فكر ومعرفة، ع2، 255 – 293.
(٦) نفس المرجع، رقم (١).
(٧) رؤية السعودية ٢٠٣٠، https://www.vision2030.gov.sa
(٨) نفس المرجع، رقم (١).
(٩) التقرير العربي للتنمية المستدامة. (٢٠٢٤). ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة للجميع. الأمم المتحدة.
(١٠) نفس المرجع، رقم (١).