” النرجسية..! ذلك الوباء العالمي “

تعد النرجسية إضطراب الشخصية الأشهر على وسائل التواصل الاجتماعي في وقتنا الحاضر،
ذلك أن النرجسي له أثر مؤذٍ ومتعدٍ سلباً على أفراد المجتمع وصولاً إلى جماعاته، فهو المتبني لعقيدة “أنا ومن بعدي الطوفان”، فلا يرى إلا نفسه، والكون يدور من حوله ذلك المتفرد الوحيد، فضلاً عن أذاه المحتمل لنفسه بسبب جهله وتعنته.
هذا وقد أظهرت الدراسات الاجتماعية والنفسية أن النرجسية في تزايد مستمر حيث “وجد بحثٌ غربي تتبّعي أنّ نسبة الذين وافقوا على جملة “أنا شخص مهمّ” زادت من ١٢٪؜ من المشاركين عام ١٩٦٣ إلى ٧٧٪؜ في عام ١٩٩٦” وقد تختلف هذه النسب ارتفاعاً أو انخفاضاً بحسب التوجه المعيشي الفرداني أو الجماعي داخل المجتمعات، حيث تنخفض في مجتمعات الشرق الأوسط مقارنة بالمجتمعات الغربية، وتختلف كذلك بحسب القيم السائدة، والخصائص الاجتماعية لكل مجتمع.
فالمجتمع المعاصر شجع النرجسية وعزز وجودها من خلال السعي للظهور بصورة مثالية في وسائل التواصل الاجتماعي، والاستنفار الدائم للحصول على مزيدٍ من الإعجابات والتعليقات المعززة للغرور والتعالي والزهو بالنفس، وحب الذات المفرط.

وضمن المحاولات الدائمة لفهم هذا الاضطراب يصف البعض النرجسي بأنه طفل كبير، ذلك بالنظر لصفة “التمركز حول الذات” بأنها أهم صفاته، وهي سمة طفولية تدل على قصور النمو الانفعالي والإدراكي العقلي، ومنها عدم استيعاب وجهات نظر الآخرين ومشاعرهم أو أن سلوكاً ما سيتسبب في إيذائهم أو حزنهم.
ثم تأتي ثاني أهم صفات النرجسي وهي “الأنانية”، وذلك لحماية نفسه وتضخيمها واستثنائها، وهي سمة تبرز لدى المراهق الصغير، فهو يفترض ويتخيل أن الآخرين يجاهدون لإقصائه ومشغولون به وبتصرفاته، بالقدر نفسه الذي يفكر هو في نفسه”
ومما يؤسف أن النرجسي لم يأخذ من الطفولة سوى قصورها وضعفها، وجنح بجهله عن طهرها ونقاء قلوب صغارها، فتمخض لنا النرجسي المتضخم، والنرجسي الخفي المتأثر، والنرجسي الخبيث، وأنواع مختلفة ومتطورة من الشخصيات النرجسية المضطربة والمعقدة.

الأعراض العامة والخطورة:
تكمن خطورة النرجسية في مدى تأثيرها على الفرد من عدة نواحي:
-فعلى الصعيد الشخصي يشعر النرجسيون بالإحباط وخيبة الأمل، أو حتى الإكتئاب والعزلة في حال لم يحصلوا على التقدير أو الإحتفاء بهم وتضخيم منجزاتهم وتبجيلها، فهم يظنون أنهم مستحقون لذلك حتى ولو كان إنجازاً لا يذكر.
-تؤثر النرجسية على حياة النرجسيين الاجتماعية حيث أنهم يرون في أنفسهم الأفضلية الدائمة، وقد يدفعهم ذلك لاحتقار الآخرين والتعالي عليهم والسعي الدائم للتقليل من إنجازاتهم، بغرض حب الظهور والتفرد، واكتساح الساحات مدحاً وثناء عليهم، فضلاً عن إيمانهم بالتميز المطلق وأنه لا يجدر بغير المميزين التقرب لهم أو التعامل معهم، مع عدم تقبلهم للنقد فهم يرون أنفسهم فوق النقد، مما يبعث على نفور الأشخاص من حولهم ويخلق كراهة التواصل معهم، وصعوبة العيش مع هذه الشخصية المتعسرة.
ولعل أشهر مثالبهم هو عدم قدرتهم على تقديم الحب لمن حولهم، أو مشاركتهم أفراحهم، أو التعاطف معهم أو معاونتهم في أعمالهم، ويدفعهم لذلك غرورهم وأنانيتهم المقيتة.

الأسباب:
إن حاولنا فهم ذلك الاضطراب وحاولنا تقصي أسبابه، أو بحث بواعثه في نفس النرجسي؛ سنواجه صعوبات في ذلك، حيث أن الاضطرابات النفسية والعقلية معقدة وتتداخل فيها الأسباب والأعراض، فمن ذلك إمكانية تعرض النرجسي في طفولته لتربية متطرفة؛ إما إفراطاً في الدلال والحماية والخوف عليه، أو إمعاناً في الإهمال والنقد والتوبيخ على كل مايقدم من أعمال وإنجازات، ذلك مع إحتمال تاثير الوراثة الجينية في تكوين تلك الشخصية المضطربة، أو تعرض الدماغ لمؤثرٍ ما كمرضٍ أو عقار أدى لاضطرابه.

التشخيص والعلاج:
لو أردنا تشخيص الحالة وعلاجها، أو استقراء نسبة انتشارها في العالم لوجدنا صعوبات أكبر وأكثر من صعوبة فهم الأسباب،
حيث أن الكثير من النرجسيين لا يقرون ولا يعترفون بنرجسيتهم، ويرون في تصريحهم بمرضهم أو طلبهم للعلاج تقليلاً من شأنهم وإهانة لذواتهم، بل إن الأدهى من ذلك والأكثر سوءاً من يتخذ من نرجسيته مدعاة للمباهاة والإفتخار ويعتبرها درجة من الرفاهية وطريقة للمتعة، فيستمرئون النرجسية، ويستمرون بممارسة سلوكياتهم المضطربة على جميع من في دائرة تحكمهم وسيطرتهم، وبالتالي يصعب مع ذلك دراسة وتشخيص هذا الاضطراب المعقد والدقيق.
واستناداً على ذلك فإن تحديد نسبة انتشار النرجسية في العالم متضاربة وغير ثابته، وعليه فإن تشخيص شخص ما، أو وصمه بالنرجسية أمرٌ بالغ الخطورة، فليس كل عيب في الشخصية راجع للنرجسية، وليس من المنطق أو المعقول أن تُقطع العلاقات وتدمر روابطها بسبب خوفنا وهوسنا بفكرة جذرها الخوف والاستضعاف، فضلاً عن أن شعور أحدهم بأنه مضطهد بشكل دائم، وضحية مستضعفة يساهم كثيراً في تعزيز النرجسية لدى الطرف الآخر بما لا يساعد في حل المعضلة والتقليل من آثارها.
لذلك كان لزاماً على المختصين أن يجتهدوا لرفع مستوى الوعي المجتمعي بأسباب هذا الاضطراب لتجنبها، وأعراضه للتنبه لها، والتوجيه لوسائل العلاج، ثم التوعية بطرق التعامل مع من اعتراهم هذا الاضطراب، والبالغ أثره في أنسجة المجتمعات.
ومما يجب على كل منا فهمُ الآخر؛ كيف يفكر ؟! وكيف يشعر؟!، والانتباه للأفعال وردودها، مع المحافظة على المسافات الآمنة بين بعضنا البعض، وإدراك ماهو حق لنا وماهو واجب علينا كأفراد، كل ذلك في سبيل الحفاظ على علاقاتنا الشخصية والاجتماعية آمنة وقوية وصحية، ودفعاً للمزيد من الترابط والتطور والسلام المتآلف في مجتمعنا.

دمتم في حفظ الله ورعايته🌺

ريم خليفه

مؤهلة في الخدمة الاجتماعية والإرشاد الأسري | كاتبة في الشأن الاجتماعي | شغوفة بالتعلم والتطوير | ومهتمة بتنمية الوعي في المهارات الحياتية .
زر الذهاب إلى الأعلى