بوصلتنا الأخلاقية في رحلتنا الحياتية
“قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا” (الأنعام: ١٦١)
هل فكرت يومًا ما إذا كنت تعيش الحياة التي تريد أن تعيشها؟ ما هو المهم بالنسبة لك في الحياة؟ كيف تريد أن تكون؟
هذه أسئلة لا نطرحها على أنفسنا عادةً في كثير من الأحيان، وتعتمد على مدى تفكيرنا، نحن نسمح لأنفسنا بالانجراف وراء وتيرة الحياة التي نعيشها، دون أن ندرك كيف نعيش وما هو المهم حقًا بالنسبة لنا.
هذا التفكير الشخصي في الحياة التي نريد أن نعيشها أمر ضروري لنأخذ زمام حياتنا ونتجه في الاتجاه الذي نريده.
ما هي القيم؟
منذ الطفولة، ينقل إلينا آباؤنا رسائل مختلفة نستوعبها و نحتفظ بها، على سبيل المثال:(عليك أن تكون كريمًا وأن تشارك الألعاب و أن تقيم الصلاة…الخ) بفضل هذه الرسائل، نتعلم ما هي الإجراءات المهمة والتي تحدد هويتنا كأشخاص.
هذه الرسائل التي تحدد ما هو مهم حقاً بالنسبة لنا هي “قيمنا”، إنها مبادئنا، وهي بمثابة دليل وحافز في الحياة. إنهم يخبروننا كيف يجب أن نكون، وكيف يجب أن نتعامل مع العالم وما هو مفيد حقاً لكل واحد منا.
القيم هي اتجاهات الحياة المختارة، و مؤشر البوصلة لدينا، فهي تحدد إلى أين نريد أن نذهب، وإلى أين نريد أن نوجه رحلتنا.
نظرًا لأن الاتجاه ليس شيئًا له نهاية، ويمكن الوصول إليه، فإن القيمة لا تُستنفد أبدًا، ولا تصل أبدًا إلى النهاية، وبهذه الطريقة، إذا كانت إحدى قيمي هي أن أكون شخصًا سليمًا، فسوف أكون دائمًا قادرًا على القيام بأشياء تتماشى مع تلك القيمة، على سبيل المثال: (تناول نظام غذائي متوازن، وممارسة الرياضة، واتباع عادات صحية، وما إلى ذلك).
كما أن القيم هي التزام إنساني يختاره الفرد للتفاعل وتحقيق الانسجام مع ذاته والآخرين والبيئة الكلية التي يعيش فيها، أو هي كل ما له قيمة في حياة الفرد، ويندرج تحتها المبادئ والاعتقادات والقناعات والأخلاق، فالاحترام والرحمة والتعاون تعتبر قيم أخلاقية، والإيمان بالله والتوكل عليه والاعتقاد بمعيته قيمة عقائدية وإيمانية، والقناعة بعدم الخوض في النقاشات الجدلية وتجاهل السفهاء قناعات ذاتية وأخلاقية في نفس الوقت.
يتحدث ستيفن هايز في كتابه “ابتعد عن عقلك وادخل حياتك”، عن القيم مستخدماً استعارة “حافلة حياتك”، في هذه الرحلة، أنت سائق تلك الحافلة، و سيصعد الركاب (العواطف، الذكريات، الأفكار، الأحاسيس، المشاعر، الرغبات…) الذين سيحاولون مقاطعة رحلتك، راغبين في السير في اتجاه معاكس لقيمك، في بعض الأحيان نسمح لأنفسنا بالانجراف ورائهم أو اتخاذ قرارات لا تجعلنا نشعر بالرضا، لكنهم ليسوا هم من يتحكمون في الحافلة، أنت من يقرر في أي اتجاه ستذهب، وإلى أين ستتجه حياتك، بغض النظر عن الركاب الذين يرافقونك في الرحلة.
القيمة ليست شعورًا، لأنه يمكن الحصول على الشعور، ولكن لا يمكن الحصول على القيمة كما لو كانت شيئًا، وليست نتيجة، ولا رغبة، ولا هدف يجب الوصول إليه، لأن الأهداف تقودنا في اتجاه قيمنا، وهي الجزء “المرئي” من القيم، أي العناصر والأشياء والمواقف التي يمكن تحقيقها.
كما أن تحديد الأهداف والغايات يساعدنا على البقاء على المسار الصحيح، و للقيام بذلك، علينا أولًا تحديد قيمنا وتوضيحها، ثم تحديد الأهداف والغايات وفقًا للقيم، وأخيرًا، تحديد الإجراءات التي يتعين علينا القيام بها لتحقيق هذه الأهداف.
الدور الوظيفي للقيم:
القيم تعمل على بناء وتعظيم القدرات البشرية للفرد، وتعظيم قوته على الفعل والإنجاز والبناء والتعمير الحضاري.
١- القيم تنمّي التفكير: بتعلم التفكير بطريقة عملية من خلال ممارسة المهارات السلوكية والواجبات العملية لكل قيمة من القيم، وتنظيم العقل وطريقة تفكيره، والتفكير بشمولية وعمق، وفتح آفاق واسعة للتفكير العملي لتطبيق القيمة وتفعيل دورها في مجالات الحياة كافة؛ الفردية والمجتمعية.
٢- القيم تنمي المعرفة: بالفهم الشامل العميق للبناء المفاهيمي لكل قيمة وعلاقة كل مفهوم ببقية المفاهيم في إطار السياقي المفاهيمي للقيمية، وأهداف ومقاصد القيم، وبعد ذلك ترجمتها في شكل واجبات عملية متعددة ومتنوعة في مجالات حياة الفرد كافة، ومعايشة وفهم واستيعاب نتائج تطبيق القيمة والتمسك بها، وتداعياتها الإيجابية على الفرد والمجتمع بما يثري معارف الفرد عن القيمة الواحدة، وكلما تعددت القيم وتنوعت، اتسعت وقويت وعظمت البنية المعرفية للفرد.
٣- القيم تحسن السلوك: من خلال تحديد الواجبات التطبيقية العملية والمهارات السلوكية لكل قيمة من القيم.
٤- القيم تبني وتعزز الحافزية على التعلم الذاتي: مع تعلم وتمسك الفرد ببعض القيم، تتحسن شخصيته وجودة حياته بشكل عام، ويتحفز ذاتيا لتعلم المزيد من القيم، مع الخبرة العملية التي يكتسبها ويطورها ذاتيا عن مراحل بناء والتخلق بالقيم، بداية من المعرفة ثم الفهم والاستيعاب، ثم ترجمتها لدليل سلوك تربوي، والتدرب على تنفيذ كل مهارة وتكرارها حتى يتقنها ويتمثلها خلقا دائمًا.
٥- القيم تبني وتبرز الكاريزما الشخصية: كما أن لكل إنسان بصمة يد وعين خاصة لا تتكرر في باقي البشر، وذلك من دون إرادة بشرية، كذلك فلكل إنسان بصمة شخصية خاصة مميزة تميزه عن بقية البشر، بيد أن الإنسان مخيّر في تحديد ملامح هذه الشخصية ومقدار تميزها وعظمتها وندرة تكرارها، عن طريق ما يمكن تعلمه وجمعه والتخلق به من القيم.
تمارين لتحديد القيم:
كما ذكرنا، لكي نعيش حياة ذات معنى، يجب علينا أن نتصرف وفقًا لقيمنا، وتأتي المشكلة عندما لا نعرف كيفية تحديد ما هي تلك القيم.
ولذلك فإن الخطوة الأولى ستكون تحديد وتوضيح قيمنا في مجالات حياتنا المختلفة. يمكن تحديدها من خلال التمارين أدناه.
١. احضر جنازتك الخاصة:
بسم الله الرحمن الرحيم ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) صدق الله العلي العظيم.
الغرض من هذا التمرين هو اكتشاف الطريقة التي تريد أن يتذكرك بها الآخرون، حيث يمكن أن يوفر لك ذلك معلومات حول ما تقدره وما هو مهم بالنسبة لك.
فكر أولًا في ما تخشى أن يقولوه عنك، بعد ذلك، فكر عما يمكن أن يتحدث به أحد أحبائك عنك وما تريد أن يقوله، و ما هي الأشياء التي ترغب في سماعها؟.
٢. تخيل أنك تبلغ من العمر “٨٠” عامًا:
بسم الله الرحمن الرحيم (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) صدق الله العلي العظيم.
للقيام بهذا التمرين عليك أن تتخيل أن عمرك “٨٠ ” عامًا، وأن تنظر إلى الوراء لترى حياتك كما هي اليوم. بعد الانتهاء من ذلك، أكمل الجمل التالية:
لقد أمضيت الكثير من الوقت في القلق بشأن…
لقد أمضيت القليل من الوقت في القيام بأشياء مثل…
لو كان بإمكاني العودة بالزمن لأفعل…
٣. عشرة مجالات للقيمة:
ويتكون من اكتشاف قيمك في المجالات التالية و من خلال التفكير فيها : ( الزواج/الشراكة/؛ أطفال؛ العلاقات الأسرية ؛ الأصدقاء / العلاقات الاجتماعية؛ المهنة/التوظيف؛ التعليم / التدريب / النمو / التنمية الشخصية؛ الترفيه/المرح، الروحانية، المواطنة؛ الصحة والعافية).
من خلال القيام بهذا التمرين، يمكنك إدراك المجالات التي تهمك حقًا والمجالات التي ليست كذلك. إذا كان هناك أي منطقة لم تجد فيها أي قيمة، فيمكنك تركها فارغة. لا توجد إجابات جيدة أو سيئة، لأنه لا توجد قيم أفضل أو أسوأ.
ختامًا، من الملائم لكل واحد منا أن يعمل على قيمه، وكيف يريد أن يكون، وفي أي اتجاه يريد أن يسير بحياته، و من هنا يجب دائمًا أن نحفز أنفسنا نحو التغيير، ونتخذ الإجراءات من خلال وضع أهداف وغايات قصيرة وطويلة المدى تعطينا المعنى والاتجاه وتجعلنا نشعر بالراحة معها ومع أنفسنا لأنها تتماشى مع قيمنا.