“التَّقبُّل” بين التَّنظير والتَّجريب!

في شهر الخدمة الاجتماعية، أُم العِلم والعَمَل الإنساني، والتي لطالما غَذَّت عقولنا وأرواحنا بما يُجمِّلنا لأنفسنا وللآخرين، بما يجعلنا الأكثر فَهمًا واستيعابًا وقُدرة..!
في شهر الخدمة الاجتماعية، التي علّمتك مبادئها كُل معاني تقدير الإنسان واحترامه وتكريمه.. هل جرّيت أن تسرح بخيالك تُسخِّر يوم واحد مِن عُمرك فقط تُطلِق فيه عنانك لأجل مبدأ واحد مِن تلك المبادئ؟!
قِف مَثلًا عند “التَّقبُّل”! ماذا يدور بعقلك وأنت تقرأه/ تسمعه/ تكتبه..؟!
قد تتذكَّر اللحظة الّتي شُرِح فيه هذا المُصطلح أمامك وأنت طالِب.. وقد تتذكَّر بدايات مُمارستك التَّخصُّص.. وقد تتذكَّر اللَّحظة الأولى لأوَّل عميل اجتهدت أن تكون مَعه مُمارِسًا مُلتزِمًا بالمبدأ..!
هَبّ أنَّك وَقفتَ عِنده أمام هذه الأمثلة.. هل دار بِبالك تساؤل كيف وصلوا لوضع مِثل هذا المبدأ؟! لماذ دائمًا يُذكَر أوّل مبادئ المِهنة؟!
أنا أخبرك:
إنَّ الحقيقة يا عزيزي الأخصائي الاجتِماعي، أنَّ هذا المُصطلح خطير، خطير جِدًا لِدرجة لا يُسعِف أمامها أعمق وأبعد تَخيُّل!
أنتَ عِندما تَعلَّمته، وجَرَّبت تطبيقه على عُملائك المُختَلِفين سُلوكًا ومَنهجًا وشريعة وتَركيبة و..و…! لا بُدَّ وأنَّك شَعرت بالتَّشتُّت والصُّعوبة الكبيرة.. لا بُدّ وأنَّ شُعورًا سلبيًا استيقظ داخلك عندما اتَّهمك عميل ما بالتَّقصير أو لِنَقُل شَتَمك -مَثلًا-! لا تُقُل أنّك ابتسمتَ وأنت تَتَقبّله -“كما هو لا كما يجب أن يكون”-!.. دونما تشعر أنَّ في داخلك رصيد مِن الأذى ستلجأ إلى إفراغه لاحقًا!
لَعلَّهم وضعوه كي لا يُصاب الآخرون بالأذى، ولَعلَّهم وضعوه كي لا تُصاب أنتَ بالأذى، ولَعلَّهم وضعوه كي لا نُصاب جميعًا بالأذى.. والأخير هو الأكثر ترجيحًا!
إن تأذّى الغَير فأنتَ مُهدَّد، وإن تأذّت نفسك فأنت مُهدَّد، وإن تأذّى الجميع فالإنسان مُهدَّد!
مُهدَّد بالسُّلوك غير السَّويّ المُتَولِّد عن أسباب غير سَويّة، والذي سَعَت المِهنة طويلًا جِدًا لتهذيبه في البشرية من خلال هذا “التَّقبُّل”!
وفي العادة النَّاجِح مِنّا مَن يستفيد مِن مِهنته لحياته الشَّخصيّة، يُمرِّن نفسه المِهَنيّة بالأحداث والمواقِف المُختلِفة.. فيبدأ أوّلًا بِتَقبُّل نفسه.. يُحبّها، يُنَّميها، يَثِق بها وبأدائها، ينهض بطاقاتها ومواردها.. يبذل كل جهده للعناية بها كي يكون الأكثر احتراقًا ومِهَنيّة في حياته!
هي التَّجربة إذن!
عليك أن تكون صاحِب تجربة، كي يسمح خيالك بالتركيز قليلًا في جوهر هذا القول!
هل جربت أن تقوم بكل هذا النُّهوض بالتَّجربة، لِتحمي الإنسان وتُجِلّ هذه المِهنة العظيمة السّامِية، فتأتيك لحظة واحدة تهدم كُلّ هذه الحضارة! لتُصبِح وتُمسي ترى نَفسك الأخصّائي الَّذي يتقبَّل نَفسه -“كما هي لا كما يجب أن تكون”-!!!
إنّها حياة الأخصائي الاجتماعي في الحروب والكوارث الإنسانية، القائمة على مبدأ “الإبادة” وهدم الحضارة!
تفرض على الأخصائي الاجتماعي ألّا يرى نفسه كما يجب أن تكون، وأن يتقبّل فَرض شعور الرَّفض، ويُقاومه فلا يستطيع!
يعيش صِراع المفاهيم، واختلاط الأدوار، وانتهاك المبادئ، و…و.. فهو بالكاد يرى نفسه حتى يَعرفها ويُعرِّفها!!
في شهر الخدمة الاجتماعية:
تَقتُل الحروب الكثير جدَا من الأخصائيين الاجتماعيين، مِمَّن حاولوا تقبّلهم لأنفسهم بين التنظير والتّجريب، ففاق الوَصف طاقتهم فماتوا أحياء!
في شهر الخدمة الاجتماعية:
الحروب تجعل مبادئ المِهنة الخطيرة بَشِعة جدًا!

عُلا أسامه فرج

أخصائية اجتِماعية، باحِثة ماجستير خِدمة اجتِماعية. فِلَسطين- غَزّة.
زر الذهاب إلى الأعلى