تأثير الإعلام الحديث على الأسرة

تُعدُّ وسائلُ الإعلام السلطةَ الرابعة في المجتمع؛ حيث تلعبُ دورًا هامًا في تحديدِ وتشكيلِ الأفكار والقيم والمعتقدات، لذلك تأتي الأسرة من أهم وحدات المجتمع التي تتأثر بهذه الوسائل الإعلامية المتنوعة من خلال العديدِ من الآثار الإيجابية والسلبية، ومنها: دور الإعلام في تشكيل الثقافة ونقل المعلومات والقيم للأسرة؛ بوصفها عدة وسائل تنقل مجموعةً متنوعةً من الأفكار والمعارف والثقافات والنماذج الاجتماعية، مما يؤثر في تصوّر الأسرة عن نفسها وعن العالم من حولها وفي نشأة أفرادها.
وفي السياق ذاته، يمكن للإعلام أن يؤثر في الأسرة تأثيرًا إيجابيًا من خلال تقديم محتوى يتعلق بالتنشئة السليمة والتربية والصحة العائلية والعادات الإيجابية للذات، حيث يُقدّم الإعلام نصائح توعوية ومعلومات حول العناية بالأطفال، والتواصل العائلي، والتعامل مع الحياة الزوجية، وبناء الذات والقدرات وغيرها من المواضيع والأفكار ذات الصلة بالأثر الإيجابي، كما يُمكن أن يساعد هذا المحتوى في توجيه الأسرة، وتعزيز مهاراتها ومعرفتها في مجالات مختلفة.
ومن وجهه أخرى يمكن أن يكون هذا التأثير سلبياً؛ من خلال تأثير بعض أنواع وسائل الإعلام الحديث على قيمِ وسلوكياتِ وعلاقاتِ أفراد الأسرة، فضلاً عن أثرها في تنشئة الأطفال بعيدًا عن القيم السائدة للأسرة والمجتمع.
مع ذلك يجب ألا ننسى أن الأسرة لديها القدرة على قبول أو رفض المعلومات والتأثيرات الإعلامية؛ حيث يمُكن للأسرة أن تَستخدم وسائل الإعلام بشكل إيجابي لتعزيز الاتصال بالتقنية الحديثة والتعلم وتعزيز قيمها الخاصة.
وعليه تُعرَف وسائل الإعلام بأنها: مجموعةٌ من المواد الأدبية والفنية المؤدية للاتصال الاجتماعي بالناس بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال الأدوات التي تنقلها أو التعبير عنها، مثل: الصحافة والإذاعة والتلفزيون ووكالات الأنباء (هندي، 2008: 18).
ويُمكن تعريف وسائل الإعلام اجتماعيًا بأنها: الوسائل والأدوات التي تُستخدَم لنقل المعلومات والأخبار والأفكار إلى الجمهور الواسع، حيث تُعدُّ وسائل الإعلام أحد أهم العوامل التي تؤثر في التواصل والتفاعل في المجتمعات الحديثة.
لذلك فإنَّ وسائل الإعلام تمثلُ جزءًا هامًا من البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات الحديثة، وتؤثر بشكلٍ كبيرٍ على القيم والمعتقدات والممارسات الاجتماعية والعلاقات الأسرية، كما تُساهم في تشكيل الثقافة الجماعية وتعزيز الهوية الثقافية وتوجيه السلوك الاجتماعي.
وفي سياق السوسيولوجيا تتم دراسة وسائل الإعلام كجزءٍ من البنية الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية، إذ بالنظر إلى العلاقة بين وسائل الإعلام والأسرة، فإنَّ السوسيولوجيا تدرس كيفية تأثير الإعلام في تشكيل الأفكار والمعتقدات والقيم المرتبطة بالأسرة، وكيفية تأثير الإعلام في الديناميكيات العائلية والتفاعلات بين أفراد الأسرة.
وعلى هذا فإنَّ أحد أشكال وسائل الإعلام الأكثر تأثيرًا في الوقت الحالي هي برامج ومواقع ووسائل (التواصل الاجتماعي) التي باتت تؤثر على علاقات الفرد بأسرته؛ لا سيما عند استخدامها بشكل مفرط أو غير صحيح، لذا أظهر تقريرٌ لمؤشر الفتوى العالمي التابع لدار الإفتاء المصرية وهيئات الإفتاء في العالم، في إطار تحليله لنحو (1200) فتوى رسمية وغير رسمية متعلقة بالطلاق في العالم العربي خلال عام 2022، أنّ تساؤلات المستفتيين والإجابة عنها، أظهرت أن أسباب الطلاق تمحورت حول ثلاثة عوامل الأول: هو العامل الاقتصادي بنسبة (43 بالمئة) والثاني: كان العامل الاجتماعي والأُسري وجاء بنسبة (37 بالمئة) والعامل الثالث: جاء بنسبة (20 بالمئة)، وكان خاصًا بالوسائل التكنولوجية، وما يترتب عليها من إدمان الإنترنت من جانب أحد الزوجين أو كليهما؛ ما يؤدي للعزلة الأسرية، وقد ينتهي الأمر بالطلاق (موقع عربية سكاي نيوز).
وبالنسبة لاستخدام الإنترنت والحياة الأمريكية، فقد بينت كثيرٌ من الدراسات أن حوالي 87% من المراهقين هم مستخدمون لشبكة الإنترنت دائمًا، وأن أكثر من 55% من هؤلاء المراهقين يقومون باستخدام شبكات الإنترنت بالدخول إلى المواقع الاجتماعية، وأن حوالي 45% منهم يقومون بالدردشة مع أصدقاء لهم من خلال الملفات الشخصية عن طريق الشات أو الماسنجر (الدليمي، 2012: 131).
كما أظهر استطلاع للرأي أجرتهُ جمعية أصدقاء الصحة النفسية القطرية “وياك” تصدر تأثير وسائل الإعلام في سلوك الطفل أكثر من الوالدين والمدرسة، حيث أوضح الاستطلاع الذي أجرتهُ الجمعية على مواقع التواصل الاجتماعي أن وسائل الإعلام تؤثر في الأطفال بنسبة 34%، يليها الوالدان بنسبة 32%، فالأصدقاء 20%، ثم المدرسة بنسبة 14% (موقع الجزيرة).
ومن الرؤى الداعمة لذلك فإنَّ هناك العديد من النظريات التي تُفسّر مدى تأثير الإعلام على المجتمع والجماعات والأفراد، ومنها:
نظرية الاعتماد على النظام الإعلامي التي ظهرت على يد الباحثين بول روكين وديلور عام 1979، اللذين طرحا فكرة أنه ينبغي دراسة وسائل الإعلام وجماهيرها، وفحص سياق أكبر وأشمل للنظم الاجتماعية؛ لأن هناك علاقات متبادلة بين الأنظمة الاجتماعية ووسائل الإعلام وبين أفراد المجتمع تشرح بمجموعها تأثير وسائل الإعلام، كما أن نظرية الاعتماد على وسائل الإعلام تفترض في أبسط صورها، أنه كلما زاد اعتماد الفرد على وسائل الإعلام لتلبيه احتياجاته ورغباته زادَ ذلك من أهمية وسائل الإعلام في حياة ذلك الفرد، ثم زادت قدرة وسائل الإعلام على إحداث تأثيراتٍ متنوعةٍ على ذلك الفرد (القحص،2022: 587).
وبناءً على ذلك يظهر لنا التأثير الكبير على أفراد الأسرة في حال لجأ أفرادها إلى إشباعِ حاجاتهم من خلال وسائل الإعلام بدلاً من إشباعها داخل الأسرة، وذلك حتمًا سيؤدي إلى خلل ومشاكل وضعف في العلاقات داخل الأسرة، لذلك فهي ترتكز على أساس وجود علاقات بين الإعلام والنظام الاجتماعي وبين أفراد الجمهور (مكاوي:2000) كما أن لها أرضية مع منظور الاستخدامات والإشاعات؛ من حيث أن أفراد الجمهور يلجؤون إلى الإعلام باختلاف وسائله للحصول على المعلومات التي تُساعدهم في الوصول إلى حاجاتهم وتحقيقها، مما يؤدي إلى تعزيز السيطرة الثقافية والاقتصادية للقوى السياسية والاقتصادية الكبرى. (الموسى، 2003).
كما أن نظرية الرصاصة تُفسّر أن الفرد يتأثر بمضمون الوسيلة الإعلامية تأثيراً تلقائياً، وأن وسائل الإعلام لها تأثيرُ قوي ومباشر على الفرد والمجتمع يكاد يبلغ حد السطوة والهيمنة، وهذا التأثير قوي وفعال مثل: الرصاصة.
وكذلك ترى نظرية التطعيم أن الإعلام يعطي جرعاتٍ من القيم الفكرية التي تجعل الأمر مألوفاً ويُغرّس تدريجياً من خلال انتقاله عبر وسائل الإعلام المتنوعة، حيث يتأثر المتلقي دون وعي بما تعرضهُ وسائل الإعلام بشكل متواصل، فيُصاب بنوعٍ من التبلّد وعدم الإحساس؛ فتكرار المناظر المخالفة للقيم وكذلك صور العنف عبر هذه الوسائل يصنع شيئاً من اللامبالاة تجاه ما يرون في المجتمع من تبرج.
كما يمكن الإشارة إلى الإعلام الحديث ومدى تأثيره على الأسرة، من خلال ما يلي:
– تأثيره على الاتصال والتفاعل العائلي: قد يؤدي تعدد وسائل الإعلام واستخدامها المستمر إلى تقليل الوقت المخصص للتفاعل العائلي؛ فالأفراد قد ينغمسون في استهلاك الوسائل الإعلامية، مثل: التلفزيون والهواتف الذكية، مما يؤدي إلى الإدمان ويقل التواصل الاجتماعي المباشر بين أفراد الأسرة، حيث يؤدي ذلك إلى ضعف الروابط العائلية والشعور بالانعزال.
– تأثير على القيم والمعتقدات: تعرض الأسرة مجموعةً متنوعةً من المحتوى الإعلامي الذي ينقل قيمًا ومعتقداتٍ مختلفة، لذا قد يكون للإعلام تأثير على تشكيل وتغيير قيم الأسرة وآرائها، وقد يعمل على تقديم وجهات نظر جديدة وتحدي المعتقدات التقليدية، ويؤدي ذلك إلى توترات وتباين في القيم بين أفراد الأسرة.
– تأثير على صورة الذات والجمال: يعرض الإعلام الحديث الأفراد لصورٍ مثاليةٍ ومعياريةٍ للجمال والنجاح، حيث قد يؤدي ذلك إلى ضغوطٍ نفسيةٍ على أفراد الأسرة بشأن مظهرهم الشخصي وإحساسهم بالرضا عن أنفسهم.
– تأثير على التربية والتعليم: يمكن للإعلام الحديث أن يكون مصدرًا هامًا للمعرفة والتعلم، ومع ذلك، يمكن أن يؤثر أيضًا على عملية التربية والتعليم في الأسرة، حيث قد يتعرض الأطفال لمحتوى غير مناسب أو ضار، ويمكن أن يؤثر ذلك على تطورهم النفسي والاجتماعي، كما قد يؤدي استخدام وسائل الإعلام الحديثة بشكل مفرط إلى انخفاض التركيز وتراجع القدرة على التفكير النقدي.
– تأثير على الوقت وتنظيم الحياة: يمكن أن تَستنزف وسائل الإعلام الحديثة الكثير من الوقت، وتؤثر على تنظيم الحياة العائلة، كما قد ينخفض وقت العائلة المخصص للقاءاتها والقيام بالأنشطة المشتركة نتيجةَ الانشغال بالإعلام، حيث يمكن أن يُؤدي ذلك إلى ضعف الروابط العائلية وتقليل الفرص لتعزيز التواصل والتفاعل العائلي.
وعلى الرغم من هذه الآثار السلبية المحتملة، يجب الإشارة إلى أن وسائل الإعلام الحديثة لها أيضًا آثار إيجابية على الأسرة، مثل: زيادة الوعي والمعرفة وتوفير فرص التواصل والتعلم، لذا يجب أن يتم التعامل مع وسائل الإعلام بشكل صحيح ومتوازن، وضمان وجود توازن بين الاستخدام الصحيح للإعلام والحفاظ على الروابط العائلية القوية والصحة النفسية لأفراد الأسرة.
وختامًا يجب أن نذكر دائما أن هناك إيجابيات وسلبيات لوسائل الإعلام الحديثة وتحديات متنوعة قد تؤثر على الأسرة؛ فتأثير وسائل الإعلام على الأسرة يمكن أن يكون تحديًا، ولكن هناك بعض التوصيات التي يمكن اتباعها للتعامل مع هذا التأثير بشكل إيجابي:
● التوعية: يمكن نشر برامج توعية للأسرة على مستوى الأحياء من خلال ندوات وأنشطة يقوم بها الجمعيات وكذلك الجامعات.
● الرجوع للمتخصصين في شؤون الأسرة في المراكز النفسية والاجتماعية في حال الشعور بوجود مشكلة للأبناء أو أحد أفراد الأسرة بسبب الإعلام الحديث.
● البحث عن بدائل إيجابية: يمكن للوالدين البحث عن أنشطة بديلة وإيجابية للأبناء وتبعدهم عن إدمان الإعلام بجميع أنواعه، مثل: التسجيل في نوادي رياضية وعمل رحلات دورية للأسرة وغيرها من الأنشطة.
المراجع:
1- بوزيد، أحمد. (1967). البناء الاجتماعي. جامعة الإسكندرية: دار الكتاب العربي.
2- البياتي، علاء الدين. (1971). الإنثروبولوجيا. العراق: مطبعة النعمان.
3- مكاوي، حسن عماد. (2000). نظريات الإعلام. جامعة القاهرة لتعليم المفتوح.
4- الموسى، عصام سليمان. (2003). المدخل في الاتصال الجماهيري. الأردن: الكتابي للنشر.
5- الفحص، خالد الحميدي. (2022). الاعتماد على وسائل الإعلام خلال الهجمات الإرهابية. الكويت: حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية.
6- هندي، صالح ذياب. (2008). أثر وسائل الإعلام على الطفل. عمان: دار الفكر.
7- الدليمي، عبدالرزاق. (2012). وسائل الإعلام والطفل. الأردن: دار المسيرة.
المواقع الإلكترونية:
1- www.skynewsarabia.comعربية نيوز سكاي. المعتز غنيم. وسائل الإعلام أكثر تأثيرا في الأطفال من الوالدين والمدرسة 2023)).
2- www.aljazeera.com الجزيرة. وسائل الإعلام أكثر تأثيرًا في الأطفال من الوالدين والمدرسة.

مها الحربي

محاضر/طالبة دكتوراة/ قسم علم الاجتماع/ جامعة الملك سعود
زر الذهاب إلى الأعلى