وَعَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاه
مسألة أن تجد نفسك منتقلًا من مرحلة عمريّة لا يهمّ فيها سوى اللعب واللّهو والمرح إلى مرحلة أكثر مسؤوليّة قليلًا، فمن هذه النقطة تبدأ المسؤوليات بالتراكم، وتبدأ صفحتك بالظّهور علنًا أمام نفسك وأمام المجتمع والله فيما قدّمته وما عملت عليه خلال هذه الأيّام التي تقضيها.
فكلّ الذين وصلوا إلى عمر الستّين كانوا ينظرون خلفهم بكثيرٍ من الأسى، بأنّ ما مرّ لم يكن سوى لحظة، وأنّ العمر لم يتعدَّ أن يكون حافلة مدّتها ساعة ونصف وربّما أقلّ تقلك من مسافة إلى مسافة دون أن تشعر.
فرفّة عين، أو غمضة جفن، تلك كانت أوصاف الذين جلسنا معهم نسألهم ماذا عنت لهم الرحلة الطّويلة بعد وجودهم ستّين عامًا في الحياة! فما بالك اليوم وأنتَ ما زلت في أوّل المسافة، تركب الحافلة ولمّا تنقضِ المسافة كاملة بعد، ولم يزل في الجسد قوّة، وفي الفِكر المزيد من اللهب الذي يحتاج للإشعال بجذوة نار مهما كانت صغيرة.
لِمَ ننتظر الوقت الذي نلتفت فيه إلى الخلف نادمين على تلك اللحظة التي لم نغتنم فيها رياحنا، ولم نسخّر ملكوت شبابنا ليكون حصيلة مثمرة شاهدة علينا، فنقبض على أفضل الفرص ونمرّر شريط الذاكرة على حياةٍ لا نقف حائرين أمام السّؤال عنها، عن عمره فيما أفناه؟
عن تلك الساعات التي انقضت، عن العمل المطلوب منّا، والسّعي الذي لا بدّ من أن يكون شريكًا متينًا للحظة، وعن العبادة أين مكانها منك، وباقي أوراقك ماذا خبّأتَ في محصّلتها؟
كلّ ذلك سنسأل عنه، وستسمع صدى صوت فيما أفنيته؟ وسيكون القصد عن عمرك.
فماذا لو نحا الواحد منّا إلى حياة مهدورة، فتخرج كما بدأت، أو كما كان يفترض لك أن تبدأ، صفر اليدين خاويًا، لا تمتلك حتّى ذكرى ذلك العمل الذي أوصلك، ولا تملك في جيبك مفتاحًا واحدًا ليُفتح باب هدفٍ ما وما انطوى عليه من خيبات ونجاحات وتصفيق وشرود وبكاء وانفراد وتراجع ثمّ تقدّم.
أليس جديرًا أن نخرج ببطاقة مكتوب عليها: هذا الشّخص اسمه فلان، وقد قدّم لعمره ما أفاده وما أفادنا جميعًا، وكان ياقة بيضاء أكملت أناقة ثوب مسيرته، وله من الأعمال ما يكرمه، ومن السعي ما يُعرف به، ومن العبادات ما يرفعه، ومن الاجتهاد ما يُشار به إليه… أليس جديرًا أن نتبع أسماءنا بلواحقَ تدلّ على مَن نحن، وما كنّا، وما وصلنا إليه؟!
ثلاثون أو أربعون، ستّون أو سبعون … لا فرق؛ كلّها أرقام سنوات، لكن الرّقم الحقيقيّ يتشكّل في حصيلة ما حصّلناه، وما اكتسبناه وخضناه.
فالصفحة المعروضة لا بدّ أن تكون وافية وكافية للإجابة وقت السّؤال بين يدي الله عزّ وجلّ عمّا أفنيناه وقضيناه وقد استخلفنا في الأرض وسخّرها لنا، وسخّرنا إليها.
فكن على علمٍ بأنّك مسؤول، وبأنّنا ماضون حيث النهاية لا ريب، فلتكن نهاية تستحقّ أن يُتحدّث عنها، وأن تكون وافية حين السّؤال.